هذه الشهادة تتضمن أربع مراتب وهي: العلم، والتكلم، والإعلام والإخبار، والأمر والإلزام.
الأولى: مرتبة العلم، فعندما نقول: فلان يشهد بشيء، معنى ذلك أنه يعلمه لأنه شهد به، لكن فرق بين مرتبة العلم ومرتبة الإعلام؛ لأن الإِنسَان قد يعلم الشيء ولكنه لا يتكلم به ولا يخبر به.
وهذه المرتبة قد دلت عليها أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمخلوقون ينبغي لهم أن يعلموا حقيقة هذه الشهادة أيضاً: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[الزخرف:86] أي: أنه لا إله إلا هو، فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم أنه لا يوجد هناك إله معبود بحق سواه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يمكن أن يكون شيء خارج عن علم الله، فهذا علم الله.
وفي حقنا نَحْنُ فالعلم بها: أن نعتقدها ونصدقها بأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- واحد لا شريك له.
الثانية: مرتبة التكلم، وفيه الحديث:
{عَلَى مثلها فاشهد} فهذا الحديث معناه صحيح ولكن لفظه ضعيف، وهو {
أن رجلاً جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عن الشهادة، فأشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشمس وقَالَ: عَلَى مثلها فاشهد، أو دع} فالإِنسَان لا يشهد إلا بما يعلم لا بما يظن، فلا يجوز لشاهد في قضية دنيوية أن يشهد فيها بظنه؛ وإنما يشهد بما يعلم وما هو متأكد ومستيقن منه، فما بالك بمن يشهد أنه لا إله إلا هو!
فمرتبة التكلم: أن تتكلم بما تشهد به بالنسبة لله تَعَالَى وبالنسبة لنا، فتتكلم به وتقول للناس: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تكلم بهذه الشهادة، فجاءت ضمن القُرْآن شهادة أن لا إله إلا الله والأمر بتوحيد الله.
والتكلم بشيء شهادة له، والدليل عَلَى ذلك في كتاب الله قال تعالى:
((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ))[الزخرف:19] فهذا القول بذاته شهادة، فهم شهدوا بأن الملائكة إناث مع أنهم لم يقولوا شهدنا، وإنما قالوا: الملائكة إناث.
الثالثة: مرتبة الإعلام والإخبار: وهي أن تتكلم بشيء فتخبر غيرك به وهذا يكون شهادة، يقول المصنف: إنه عَلَى نوعين، فقد يكون بالفعل وقد يكون بالقول.
النوع الأول: ومثاله: لو أن إنساناً فتح باباً لمبنى وجاء النَّاس يصلون فيه، وفرشه ووضع فيه مكبر الصوت -مثلاً- فهو وإن لم يكتب صكاً بأن هذا وقف فإنه يحكم فيه أنه وقف. ومثله إنسان يفتح بابه ويضع مائدة يدخل النَّاس إليها، ويأتي الذي يعرف والذي لا يعرف، فهو كأنه يقول: تعالوا أنا أدعوكم إِلَى وليمة، ودلالة الحال تدل عليه، ففعله هذا يدل عَلَى أنه معلن ومخبر.
والإعلام يكون بالفعل المجرد عن اللفظ، ويكون ذلك في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأن الله شهد بفعله وبقوله: أنه لا إله إلا هو، ولذلك قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو. حيث جعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- السماء بروجاً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وخلق الإِنسَان في أحسن تقويم، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفةً ألوانها، وبث في الأرض من كل دابة، وسخر الرياح وسخر النجوم.
فبهذه الأفعال التي فعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد أنه لا إله إلا هو كما قال أبو العتاهية:
فواعجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء لـه آيـةٌ تدل عَلَى أنه الواحـد
فهذه من الشهادة بالفعل، ولذلك يكون الإخبار عن صدق القُرْآن دل عليه السمع والبصر والقلب والنقل الذي هو الشرع.
فعندما يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))[الإسراء:36] وكما في الآيات الأخرى التي تتحدث عن الأصنام والمعبودين من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه ليس لهم سمع وليس لهم بصر، وكذلك الآيات التي تنفي السمع عمن يعبدون الأصنام
((إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً))[الفرقان:44] وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعطي العُمي الأبصار، ولا يعطي الصم الأسماع.
هذه كلها تدل عَلَى أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد جعل الآيات الدالة عَلَى توحيده من هذه المنافذ العظيمة - منفذ السمع والبصر- فما يبصره الإِنسَان في هذا الكون من المخلوقات تنطق وتشهد بأنه لا إله إلا هو، وإن لم تتكلم بالكلام الحسي الذي نألفه ونعرفه.