المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال تعالى:((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام))[آل عمران:18، 19] فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد عَلَى جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجلَّ شاهد بأجلِّ مشهود به.
وعبارات السلف في (شهد) تدور عَلَى الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان والإخبار.
وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها: فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه.
فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته، وثانيها: تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بها بما يشهد به ويخبره به ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله -سبحانه- لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به.
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كَانَ الشاهد شاهداً بما لا علم له به قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[الزخرف:86] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عَلَى مثلها فاشهد، وأشار إِلَى الشمس}.
وأما مرتبة التكلم والخبر، فَقَالَ تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ))[الزخرف:19] فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر: تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله.
ولهذا كَانَ من جعل داره مسجداً وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنها وقف وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وجد متقرباً إِلَى غيره بأنواع المسار، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب -عَزَّ وَجَلَّ- وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه. وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه: "أنه لا إله إلا هو" وقال آخر:
وفي كل شيء له آية            تدل عَلَى أنه واحد
ومما يدل عَلَى أن الشهادة تكون بالفعل، قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ))[التوبة:17] فهذه شهادة منهم عَلَى أنفسهم بما يفعلونه، والمقصود أنه -سبحانه- يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله] إهـ.

الشرح:
لما أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن يستشهد عَلَى أن الله قد بين أنواع التوحيد، وأن القُرْآن كله توحيد، جَاءَ بآية الشهادة وهي من أعظم الدلائل عَلَى الأصل الكلي: أن القُرْآن هو الدعوى وهو الشاهد، وهو أيضاً الحكم وهذه الثلاث من خصائص القُرْآن.
فالقرآن تضمن الدعوى والبرهان القاطع عَلَى أنه من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فكل من أراد أن يتأمل حقيقة الدعوى، عليه أن يتأمل القُرْآن فإن الدعوى هي نفسها البرهان.
هذه الآية هي حقاً من كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ففيها الدعوى وفيها البرهان معاً قال تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[آل عمران:18] ثُمَّ قَالَ: ِ((إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ))[آل عمران:19] هذه الشهادة شهادة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لنفسه، فما بالكم بأمر يكون الشاهد فيه هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والمشهود له هو الله سبحانه.
فيشهد -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه هو وحده الإله فهو الشاهد، وهو المشهود له؛ ولذلك يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: إن هذه الآية تضمنت إثبات حقيقة التوحيد والرد عَلَى جميع طوائف الضلال الذين خالفوا في توحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنها تضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وهو التوحيد.

فهي الشهادة التي جَاءَ بعدها قول الله تعالى: (((ِإنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)) فشهادة أن لا إله الله هي: دين الإسلام وحقيقته، وبقية أركان الإسلام وشعب الإيمان هي أسنان لهذه الشهادة.
وسبب نزول سورة آل عمران أن وفد نجران الذين كانوا عَلَى دين النَّصارَى، جاءوا إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجادلوه في ألوهية المسيح وبنوته لله -كما يعتقدون- فأنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه الآيات يبين فيها حقيقة المسيح عَلَيْهِ السَّلام، ورد دعاوى هَؤُلاءِ النَّصارَى في ألوهية المسيح أو أنه ابن لله، وبين تَعَالَى أن ملة إبراهيم هي التوحيد، وأن أولى النَّاس بإبراهيم هم الذين آمنوا به في عهده والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه أيضاً، وأنكر عَلَى أهل الكتاب أنهم يكتمون الحق، وأنهم يلبسون الحق بالباطل، وألزمهم إن لم تنفع وتجدي فيهم هذه الحجج بالحجة المعروفة المشهورة التي لو تأملها كل من ينتمي إِلَى هذا الدين لأيقن بحقيقة دين الإسلام، وهي أنكم إن كنتم تقولون: أن المسيح عَلَيْهِ السَّلام هو ابن لله! - تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً -لأنه ولد من أم بلا أب، فماذا تقولون في آدم؟!
((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[آل عمران:59] فالأعجوبة الخارقة في آدم أعظم منها في عيسى، لأن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خلق آدم من غير أب ولا أم، ثُمَّ إنه خلق حواء من أب -وهو آدم- ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا))[النساء:1] بدون أم، وخلق عيسى عَلَيْهِ السَّلام من أم بدون أب، فالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يخلق ما يشاء، فلماذا يكون عيسى هو إله أو ابن لله كما تزعمون؟!
وبعد ذلك تأتي الحجة الأخيرة الدامغة في مناظرتنا دائماً لأهل الكتاب وهي المباهلة، ولهذا يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك إذا حاجونا من بعد ما جاءتهم البينات موضحة لهم، أن نقول كما قال الله تَعَالَى لنبيه: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ))[آل عمران:61].
وعبارات السلف في شهد جاءت بمعنى: حكم، وقضى، وأعلم، وبين وأخبر، وكلها حق، فحكم الله -سبحانه- أنه لا إله إلا هو، وقضى أنه لا إله إلا هو، وأعلم أنه لا إله إلا هو، وبين، وأخبر أنه لا إله إلا هو، فكل ذلك حق وكل ذلك تتضمنه كلمة شهد، فإذا أردنا أن نتبين ذلك فلنعلم مراتب الشهادة.
  1. مراتب الشهادة

    هذه الشهادة تتضمن أربع مراتب وهي: العلم، والتكلم، والإعلام والإخبار، والأمر والإلزام.
    الأولى: مرتبة العلم، فعندما نقول: فلان يشهد بشيء، معنى ذلك أنه يعلمه لأنه شهد به، لكن فرق بين مرتبة العلم ومرتبة الإعلام؛ لأن الإِنسَان قد يعلم الشيء ولكنه لا يتكلم به ولا يخبر به.
    وهذه المرتبة قد دلت عليها أدلة كثيرة من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    والمخلوقون ينبغي لهم أن يعلموا حقيقة هذه الشهادة أيضاً: ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[الزخرف:86] أي: أنه لا إله إلا هو، فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم أنه لا يوجد هناك إله معبود بحق سواه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يمكن أن يكون شيء خارج عن علم الله، فهذا علم الله.
    وفي حقنا نَحْنُ فالعلم بها: أن نعتقدها ونصدقها بأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- واحد لا شريك له.

    الثانية: مرتبة التكلم، وفيه الحديث: {عَلَى مثلها فاشهد} فهذا الحديث معناه صحيح ولكن لفظه ضعيف، وهو {أن رجلاً جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل عن الشهادة، فأشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشمس وقَالَ: عَلَى مثلها فاشهد، أو دع} فالإِنسَان لا يشهد إلا بما يعلم لا بما يظن، فلا يجوز لشاهد في قضية دنيوية أن يشهد فيها بظنه؛ وإنما يشهد بما يعلم وما هو متأكد ومستيقن منه، فما بالك بمن يشهد أنه لا إله إلا هو!
    فمرتبة التكلم: أن تتكلم بما تشهد به بالنسبة لله تَعَالَى وبالنسبة لنا، فتتكلم به وتقول للناس: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تكلم بهذه الشهادة، فجاءت ضمن القُرْآن شهادة أن لا إله إلا الله والأمر بتوحيد الله.
    والتكلم بشيء شهادة له، والدليل عَلَى ذلك في كتاب الله قال تعالى: ((وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ))[الزخرف:19] فهذا القول بذاته شهادة، فهم شهدوا بأن الملائكة إناث مع أنهم لم يقولوا شهدنا، وإنما قالوا: الملائكة إناث.
    الثالثة: مرتبة الإعلام والإخبار: وهي أن تتكلم بشيء فتخبر غيرك به وهذا يكون شهادة، يقول المصنف: إنه عَلَى نوعين، فقد يكون بالفعل وقد يكون بالقول.
    النوع الأول: ومثاله: لو أن إنساناً فتح باباً لمبنى وجاء النَّاس يصلون فيه، وفرشه ووضع فيه مكبر الصوت -مثلاً- فهو وإن لم يكتب صكاً بأن هذا وقف فإنه يحكم فيه أنه وقف. ومثله إنسان يفتح بابه ويضع مائدة يدخل النَّاس إليها، ويأتي الذي يعرف والذي لا يعرف، فهو كأنه يقول: تعالوا أنا أدعوكم إِلَى وليمة، ودلالة الحال تدل عليه، ففعله هذا يدل عَلَى أنه معلن ومخبر.
    والإعلام يكون بالفعل المجرد عن اللفظ، ويكون ذلك في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأن الله شهد بفعله وبقوله: أنه لا إله إلا هو، ولذلك قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو. حيث جعل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- السماء بروجاً، وجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وخلق الإِنسَان في أحسن تقويم، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفةً ألوانها، وبث في الأرض من كل دابة، وسخر الرياح وسخر النجوم.
    فبهذه الأفعال التي فعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد أنه لا إله إلا هو كما قال أبو العتاهية:
    فواعجباً كيف يُعصى الإله            أم كيف يجحده الجاحد
    وفي كل شيء لـه آيـةٌ            تدل عَلَى أنه الواحـد

    فهذه من الشهادة بالفعل، ولذلك يكون الإخبار عن صدق القُرْآن دل عليه السمع والبصر والقلب والنقل الذي هو الشرع.

    فعندما يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))[الإسراء:36] وكما في الآيات الأخرى التي تتحدث عن الأصنام والمعبودين من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه ليس لهم سمع وليس لهم بصر، وكذلك الآيات التي تنفي السمع عمن يعبدون الأصنام ((إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً))[الفرقان:44] وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعطي العُمي الأبصار، ولا يعطي الصم الأسماع.
    هذه كلها تدل عَلَى أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد جعل الآيات الدالة عَلَى توحيده من هذه المنافذ العظيمة - منفذ السمع والبصر- فما يبصره الإِنسَان في هذا الكون من المخلوقات تنطق وتشهد بأنه لا إله إلا هو، وإن لم تتكلم بالكلام الحسي الذي نألفه ونعرفه.
  2. دلالة الشهادة بالفعل

    يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [ومما يدل عَلَى أن الشهادة تكون بالفعل] قوله تعالى: ((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ))[التوبة:17] فهذه شهادتهم عَلَى أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله - في بعض طبعات الكتاب نقص، والزيادة هي قوله: [بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله]- فهي شهادة بكفرهم، وهم شاهدون عَلَى أنفسهم بما شهدت عليهم].
    فلو أن إنساناً يأكل الحرام -أجارنا الله وإياكم- وفي يوم من الأيام وقف وتكلم عن تحريم أكل الحرام فإنك ستقول: شهد عَلَى نفسه، وإن لم يقل أشهد عَلَى نفسي.
    ومثله ما قاله الله تَعَالَى عن الْمُشْرِكِينَ: (((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ))فإن هذا الفعل منهم شهادة بكفرهم ودلالة عَلَى أنهم لم يوحدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه -سبحانه- شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ))[الإسراء:23] وقال تعالى: ((وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ))[النحل:51] وقال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً))[التوبة:31] وقال تعالى: ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] وقال تعالى: ((وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[القصص:88] والقرآن كله شاهد بذلك.
    ووجه استلزام شهادته -سبحانه- لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبيَّن وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطَب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبّه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهلاً له فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.
    وأيضاً: فالآية دلت عَلَى أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تَعَالَى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
    وأيضاً: فلفظ "الحكم" و"القضاء" يستعمل في الجمل الخبرية، ويقال للجمل الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: ((أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[الصافات:151-154] فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً وقال تعالى: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:35، 36] لكن هذا حكم لا إلزام معه.
    والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام. ولو كَانَ المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة، وإذا كَانَ لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل] اهـ.

    الشرح:
    ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ المرتبة الأخيرة من مراتب الشهادة وهي أهم المراتب: مرتبة الأمر والإلزام به.
    وقلنا: وإن كَانَ مجرد الشهادة لا يستلزمه؛ لأنه إذا شهد إنسان بشيء فشهادته في الأصل لا تستلزم أمراً ولا نهياً ولذا يقول المصنف: لكن الشهادة في موضع التوحيد لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تستلزم وتتضمن ذلك، -أي: المرتبة الرابعة والأخيرة- فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد شهادة من حكم وأمر وقضى به، ولذلك جاءت الآيات في القُرْآن دالة عَلَى الأمر والقضاء بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو ما يقتضي أن شهادة الله عندما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:((َشهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[آل عمران:18] تتضمن أمر الله بأنه لا يكون هناك إله إلا هو، وقال تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))[البينة:5]، ((وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ))[الإسراء:39] ((َلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر))[القصص:88] إِلَى غير ذلك.
    فالمرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: هي أمر الله وقضاؤه وحكمه بأن يفرد ويوحد بالعبادة -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- دون من سواه، كما دلت الآيات الأخرى التي ورد فيها القضاء والأمر، وورد فيها النهي.
    فمجرد الشهادة في ذاتها لا تتضمن الأمر؛ لكن هذه الشهادة - خاصة- أنه "لا إله إلا الله" تستلزم الأمر، ووجه استلزامها ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شهد أنه يعلم أنهم ما يدعون من دونه من شيء، فهو يعلم أنه هو الله الإله الواحد ثُمَّ أخبر به كما في الآية، ويتضمن ذلك أن إلهية ما سوى الله باطلة إذ كَانَ هو الإله المعبود بحق.
    ويضرب المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ لذلك مثالاً فَيَقُولُ: لو جئت إِلَى إنسان قد ذهب إِلَى طبيب ما، فقلت له: ليس هذا بطبيب، الطبيب فلان، فأنت الآن لم تأمر باللفظ ولم تنه ولكن دلالة ذلك أنك تقول: دع هذا الإِنسَان واذهب إِلَى الطبيب الذي هو فلان.
    فعندما تقول: لا إله إلا الله فهذا نفي وإثبات، وهو متضمن للأمر والنهي أي: لا تعبدوا هذه الآلهة واعبدوا الله، فمعنى أنه إله ورب إلزام العباد أن يعبدوه وحده وأن العبادة خالص حقه -كما في الحديث المشهور- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حق الله عَلَى العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً}.
  3. من استعمالات الحكم والقضاء

    ومن الأدلة عَلَى أن لفظ الحكم والقضاء قد يستعمل في الجمل الخبرية:
    أولاً: أن الكلام نوعان: "خبر، وإنشاء" والفرق بينهما أن الجملة الخبرية تحتمل الصدق والكذب، تقول: جَاءَ فلان، ويقول آخر: ما جَاءَ فلان، فهذا محتمل الرد أو القبول يعني: التصديق أو التكذيب.
    وأما الجمل الإنشائية فهي التي لا تتضمن ذلك مثل الأمر، كأن تقول: قم يا فلان، فهذا لا يحتمل الصدق والكذب، ومثل الاستفهام، تقول كيف حال فلان؟ فهذا لا يحتمل أن تقول له كذبت.

    والحكم والقضاء في الأصل أمر ونهي ويكون في الجمل الإنشائية، فإذا قال الله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:110] (وَأَنْفِقُوا) (((َكُلُوا وَاشْرَبُوا))[الأعراف:31] هذه الأوامر كلها إنشاء.
    فقوله تعالى: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[آل عمران:18] هذا خبر، ولذلك يحتمل التكذيب، وقد كذب به الكفار المُشْرِكُونَ وصدق به المؤمنون فهذه الجمل خبرية.

    ثانياً: أن المرتبة الرابعة من مراتب الشهادة: فيها الأمر والإلزام وهو متعلق بالجمل الإنشائية، والآية هي جملة خبرية، فهذا إشكال، وحله أن لفظ: "الحكم والقضاء" يأتي في الجمل الخبرية، فإذا أخبرنا إنسان بشيء فكأنه أنشأ فحكم ودليله من القرآن: ((أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[الصافات:151-154] هم قالوا: ولد الله، ولم يأمروا ويلزموا فهذا خبر والله تَعَالَى يقول: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) فهذا الكلام منهم حكم، مثلما قال عن قول الملائكة: إنه شهادة: ((سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ))[الزخرف:19] فكما أن الله سمى اتخاذهم للولد حكماً، لكنه حكم لا إلزام معه، فإن حكم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأنه لا إله غيره وشهادته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تتضمن الإلزام والأمر، فتأتي الجمل الخبرية في موضع الجمل الانشائية، كما تأتي الجمل الإنشائية في موضع الجمل الخبرية، وكل ذلك بحسب دلالة المعنى، كما يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ))[إبراهيم:10] فهذا استفهام لكن معناه نفي -أي: ليس في الله شك- وهذا كله مفصل في علم البلاغة.
    فهذه الشهادة فيها إقامة الحجة عَلَى العباد حينما يعلمون أنه أعلمهم بذلك، وشهد أن لا إله إلا هو بآياته الكونية وآياته النفسية، وبما أنزل من الآيات القرآنية، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين هذه الشهادة -شهادة أن لا إله إلا هو- بطرق ثلاث هي السمع والبصر والعقل.